فصل: (مسألة:إحرام العبد وتحليله)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:الإحصار بعد الوقوف وصد أهل مكة عن الوقوف]

وإن وقف بعرفة، ثم أحصر عن المزدلفة ومنى وعن الطواف بمكة جاز له أن يتحلل، كما يجوز التحلل قبل الوقوف، فإن تحلل من إحرامه لم يجزه ما قد أتى به عن حجة الإسلام.
وحكى ابن الصباغ: أن الشيخ أبا حامد قال في "التعليق": إذا قلنا: إن الأجير إذا مات بعد الإحرام يجوز البناء على فعله، على القول القديم جاز لغيره أن يبني على عمله هاهنا. فإن أمكنه أن يستأجر من يكمل ما بقي عليه من حجه أجزأه.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق \ 211] فإن تحلل، ثم انكشف العدو فهل له البناء على باقي حجه بعد تحلله؟ فيه قولان، بناء على القولين في جواز البناء على حج الأجير.
وإن بقي على إحرامه ولم يتحلل فإن الطواف والسعي لا يفوتان؛ لأنه ليس لهما وقت مقدر يفوتان بفواته، ولكن المبيت بالمزدلفة والرمي يفوتان. فإن فاتا قبل تحلله فهل يجب عليه الدم لترك المبيت بالمزدلفة ومنى؟ على قولين، قد مضى ذكرهما. فإن قلنا: يجب وجب عليه دم للمبيت بالمزدلفة، ودم للمبيت بمنى ليالي الرمي. وهل يجب عليه دم لأجل الرمي أو دمان؟ على الكلام الذي مضى فيه إذا تركه عامدا. وأما حصول التحلل الأول: قال الشيخ أبو حامد: فإن أصحابنا قالوا: فوات وقت الرمي يجري مجرى فعل الرمي في حصول التحلل به.
فإن قلنا: إن الحلاق نسك حلق وتحلل به، وبفوات وقت الرمي.
وإن قلنا: إن الحلاق ليس بنسك فقد حصل له التحلل بفوات وقت الرمي، ومتى أمكنه الطواف والسعي أتى بهما.
فأما إذا أحرم أهل مكة أو المقيمون بها بالحج وصدوا عن عرفة جاز لهم التحلل عندنا.
وقال مالك: (لا يجوز لهم التحلل).
دليلنا: أنه ممنوع من إكمال نسكه بغير حق فجاز له التحلل، كما لو كان مصدودا عن البيت. ولأنا لو منعناه من التحلل لفاته الحج ولزمه القضاء، وفي ذلك مشقة. فإن تحلل فهل يجب عليه القضاء؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد:
أحدهما: لا يجب عليه القضاء؛ لأنه تحلل من نسكه بالحصر العام، فلم يجب عليه القضاء، كما لو كان مصدودا عن البيت.
والثاني: أن عليه القضاء؛ لأن المحصر الذي لا قضاء عليه هو المصدود عن البيت، وهذا ليس بمصدود عن البيت، وإنما لم يقدر على الوقوف، فشابه من فاته الوقوف.
فإن لم يتحلل حتى فاته الوقوف تحلل بالطواف والسعي والحلق، وعليه هدي للفوات، ووجب عليه القضاء قولا واحدا؛ لأنه فرط في ترك التحلل.

.[مسألة:ما يجب على المحصر بتحلله والتعريف بأنواع الدماء]

وإذا أراد المحصر أن يتحلل فعليه أن يهدي شاة، وبه قال أحمد وأبو حنيفة.
وقال مالك: (يتحلل، ولا شيء عليه).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
ومعنى الآية: فإن أحصرتم، فأردتم التحلل فما استيسر من الهدي.
وروى جابر قال: «أحصرنا مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة».
ولأنه تحلل من نسكه قبل تمامه، فلزمه الهدي، كما لو تحلل بعد الفوات.
فإن كان واجدا للهدي فعليه أن يخرجه، فإن كان في الحرم نحر هديه فيه وتحلل. وإن كان في الحل، فإن كان لا يمكنه إيصال الهدي إلى الحرم جاز أن يذبح هديه حيث أحصر، وإن كان يمكنه إيصاله إلى الحرم ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له ذبحه إلا في الحرم؛ لأنه يقدر على إيصاله إلى الحرم، فلزمه نحره فيه، كما لو أحصر فيه.
والثاني: أنه بالخيار: بين أن يبعث به إلى الحرم، وبين أن يذبحه حيث أحصر؛ لأنه موضع تحلله، فهو كما لو لم يكن قادرا على إيصاله. هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (لا يجوز للمحصر أن ينحر في الحل بحال، بل يلزمه إنفاذ الهدي إلى الحرم، فإذا وصل ونحر حينئذ يتحلل في الحل، فإن تحلل قبل نحر الهدي في الحرم لم يعتد به، وكان عليه الفدية).
دليلنا: ما روى ابن عمر قال: «خرج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه وهم محرمون بالعمرة، فلما بلغ الحديبية صده المشركون ومنعوه، فلما قاضى سهيل بن عمرو أمر أصحابه فنحروا وتحللوا» والحديبية حل، بدليل ما روي عن مجاهد: أنه قال: «نحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هداياه تحت الشجرة» وهو: الموضع الذي بني مكانها المسجد، وهي الشجرة التي كانت تحتها بيعة الرضوان، وفيها نزل قَوْله تَعَالَى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18].
إذا ثبت هذا: فإنه ينحر الهدي، ثم يحلق: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
فأراد بـ: (المحل): نحر الهدي. ولأن هدي المحصر قد أقيم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، ثم ثبت أن غير المحصر لا يتحلل قبل إكمال الأفعال، فكذلك المحصر لا يتحلل قبل نحر الهدي.
ولا بد من نية الخروج من الإحرام أو التحلل منه؛ لأنه يخرج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فاحتاج إلى نية الخروج، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار في أثناء النهار فإنه ينوي الخروج من الصوم ويفطر، كذلك هاهنا.
فإن قيل: هدي المحصر عندكم يقوم مقام إكمال الأفعال لغير المحصر، وقد ثبت أن غير المحصر إذا أكمل أفعال النسك تحلل منها بغير نية، فهلا قلتم: لا يحتاج هاهنا إلى نية؟
قلنا: نحن وإن قلنا: إن الهدي يقوم مقام إكمال الأفعال فليس بإكمال؛ لأن من أكمل أفعال النسك فقد أتى بالنسك وسقط به الفرض، فلم يحتج إلى نية الخروج، كالصائم إذا أكمل الصوم إلى الليل فإنه يخرج منه بغير نية، وهاهنا خروج من العبادة قبل إكمالها بعذر، فافتقر إلى النية، كالصائم إذا مرض واحتاج إلى الإفطار بالنهار.
ثم يحلق رأسه؛ لـ: (أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حلق رأسه بالحديبية).
فإن قلنا: إن الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي والنية والحلق.
وإن قلنا: ليس بنسك حصل له التحلل بالهدي والنية لا غير.
وإن كان عادما للهدي، بأن لم يكن معه هدي ولا ما يشتري به الهدي، أو كان معه الثمن ولم يجد هديا يشتريه فهل له بدل؟ فيه قولان:
أحدهما: لا بدل له - وبه قال أبو حنيفة - فيكون الهدي في ذمته إلى أن يجده؛ لأن الله تعالى قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
ولم يذكر بدله، ولو كان له بدل عند عدمه لذكره، كما ذكر في هدي المتمتع.
والثاني: له بدل - وبه قال أحمد - وهو الصحيح: لأنه هدي يتعلق بالإحرام، فكان له بدل عند عدمه، كهدي التمتع والطيب واللباس وجزاء الصيد، وعدم ذكر بدله لا يمنع قياسه على غيره.
فإذا قلنا: لا بدل له فهل له أن يتحلل قبل وجود الهدي؟ فيه قولان:
أحدهما: (لا يجوز له أن يتحلل)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. ولم يفرق بين الواجد والعادم.
والثاني: (له أن يتحلل)؛ لأن المحصر إنما جعل له التحلل ليتخلص من مشقة الإحرام. فلو قلنا: لا يتحلل حتى يجد الهدي لأدى ذلك إلى المشقة العظيمة؛ لأنه ربما تعذر عليه الهدي زمانا طويلا.
وإذا قلنا: إن لهدي المحصر بدلا، فما البدل فيه؟ فلذلك ثلاثة أقوال:
أحدها: بدله الصيام - وبه قال أحمد - لأنه هدي للتحلل من الإحرام، فكان بدله الصوم، كهدي المتمتع.
والثاني: بدله الإطعام؛ لأن الإطعام قيمة للهدي، فإذا عدم الهدي ولم ينص على بدله كان الانتقال إلى قيمته أولى من الانتقال إلى الصوم.
والثالث: قال الشيخ أبو حامد - وهو من تخريج أصحابنا -: أنه مخير بين الصيام والإطعام؛ لأنه يتحلل ليترفه بقطع الشعر ولبس الثياب والطيب، فكانت كفارته على التخيير عند عدم الهدي، كفدية الأذى.
فإذا قلنا: إن بدله الصيام ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: صوم التمتع، وهو عشرة أيام، وبه قال أحمد، وقد مضى دليله.
والثاني: صوم التعديل؛ لأنه اعتبار للهدي بأصله، وهو الإطعام، ثم يصوم عن
كل مد يوما، فكان هذا أولى من اعتباره بغير أصله.
والثالث: صوم فدية الأذى، وهو صوم ثلاثة أيام؛ لأنه أشبه به.
وإن قلنا: بدله الإطعام ففيه وجهان:
أحدهما: إطعام التعديل؛ لأن اعتبار الهدي بأصله.
والثاني: إطعام فدية الأذى، وهو ثلاثة آصع لستة مساكين؛ لأنه أشبه به.
وإذا قلنا: إنه مخير بين الصيام والإطعام خير بين صوم فدية الأذى وبين إطعامه؛ لأنه أقرب إليه.
فإن أوجبنا عليه الإطعام وكان واجدا له أطعم وتحلل، وإن كان عادما له فهل له أن يتحلل قبل وجوده؟ فيه قولان، كالقولين في الهدي إذا قلنا: لا بدل له وإن قلنا: إن بدله الصيام فهل له أن يتحلل قبل الصيام، فيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز له أن يتحلل حتى يصوم، كما إذا كان واجدا للهدي.
والثاني: له أن يتحلل قبل الصوم؛ لأن الصوم لا يمكنه جميعه في الحال، وإنما يأتي به يوما بعد يوم، ويشق عليه البقاء على الإحرام إلى الفراغ منه، بخلاف الهدي والإطعام.
إذا ثبت ما ذكرناه: فالدماء المنصوص عليها في القرآن في الحج أربعة:
أحدها: دم التمتع، وهو على الترتيب: لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196].
ودم التمتع إنما وجب لترك النسك، وهو ترك الإحرام بالحج من ميقات بلده. فيقاس على هذا الدم والترتيب فيه كل دم وجب لترك النسك، وهي ثمانية دماء: أربعة دماء لم يختلف قول الشافعي في وجوبها، وهي: دم القران، ودم الفوات، ودم من ترك الرمي، ودم من أحرم من دون الميقات. وأربعة دماء اختلف قول الشافعي في وجوبها:
أحدها: إذا دفع من عرفة قبل الغروب، ولم يعد إليها.
الثاني: إذا ترك المبيت بالمزدلفة.
الثالث: إذا ترك المبيت بمنى ليالي الرمي.
الرابع: إذا ترك طواف الوداع.
فإذا أوجبنا هذه الدماء كانت كدم التمتع في الترتيب.
والثاني - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم فدية الأذى، وهو على التخيير؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
والدم المنصوص عليه في هذه الآية هو دم الحلق، عند عامة أصحابنا.
وتقدير الآية: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية.
وكل دم وجب لأجل الترفه، كقص الأظفار، والطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج فهو مقيس على حلق الرأس على التخيير: بين إخراج الشاة، أو إطعام ستة مساكين ثلاثة آصع، أو صوم ثلاثة أيام.
وقال أبو إسحاق: دم الطيب واللباس منصوص عليه في الآية، وليس بمقيس على حلق الرأس. وتقدير الآية عنده: فمن كان منكم مريضا، فلبس، أو تطيب، أو به أذى من رأسه، فحلق ففدية: من صيام، أو صدقة، أو نسك.
وحكى الشيخ أبو حامد: أن من أصحابنا من قال: دم الطيب، واللباس، واللمس، والقبلة بشهوة، والوطء فيما دون الفرج، على الترتيب: فيجب الدم، فإن لم يجد فالإطعام، فإن لم يجد فصوم التعديل. وقال: وليس هذا بشيء.
وأما أبو علي الطبري والمسعودي [في "الإبانة" ق \ 213] فذكرا له في دم الطيب واللباس قولين:
أحدهما: أنه على التخيير كالدم الواجب بحلق الرأس.
والثاني: أنه على الترتيب. واختاره المسعودي [في "الإبانة" ق \ 213]- فيجب الدم، فإن لم يجده قومه دراهم والدراهم طعاما وتصدق على كل مسكين بمد، فإن لم يجد صام عن كل مد يوما. ولم يذكر له دليلا، والأول هو المشهور.
والدم الثالث - من الدماء المنصوص عليها في القرآن -: دم جزاء الصيد، وهو على التخيير.
وقال أبو ثور: (هو على الترتيب)، وليس بشيء؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95]. فخيره بين المثل والإطعام والصيام.
قال أصحابنا: وهذا الدم أصل لا فرع له يرد إليه؛ لأن ضمان الصيد يجري مجرى ضمان الأموال، ألا ترى أن جزاء الصيد يختلف باختلاف الصيد في كبره وصغره؟ وليس في الحج دم آخر ضمانه كضمان الأموال حتى يرده إليه.
قلت: ولو رد الجزاء في إتلاف شجر الحرم إلى جزاء الصيد كان محتملا؛ لأن ضمانه ضمان الأموال، بدليل: أنه يختلف بصغره وكبره، ولكني لم أجده لأحد من أصحابنا.
والدم الرابع - من الدماء المنصوص عليه في القرآن في الحج -: وهو دم الإحصار؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196].
وهذا الدم أصل لا فرع له فيرد إليه، فإن كان واجدا للهدي أخرجه، وإن كان عادما فهل له بدل؟ فيه قولان، مضى ذكرهما.
وأما دم إفساد الحج بالوطء: فمأخوذ من السنة، والمنصوص: (أنه على الترتيب).
وحكى أبو إسحاق قولا آخر: أنه على التخيير، وقد مضى ذكره.

.[مسألة:إحصار المريض والنصوص التي يجوزالقياس عليها]

وإذا أحرم بالحج فمرض لم يكن له أن يتحلل، سواء كان مرضه قليلا أو كثيرا، فإن أمكنه أن يمضي في طريقه فعل، وإلا أقام حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بطواف وسعي، ويقضي. وبه قال ابن عباس وابن عمر، ومن الفقهاء مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (للمريض أن يتحلل من إحرامه).
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
فظاهر الآية: أن من دخل بهما فعليه إتمامهما بكل حال حتى تقوم دلالة التخصيص، فخص المحصر بالعدو بجواز التحلل بقوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وبقي فيما سوى ذلك على الوجوب.
وروى ابن عباس وابن الزبير: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على ضباعة بنت الزبير، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وإني شاكية، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أحرمي واشترطي: أن محلي حيث حبستني». فلو كان المريض يجوز له أن يتحلل
بالمرض لبين لها النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك، ولما أمرها بالشرط في ذلك بالإحرام. ولأنه لا يتخلص بالتحلل من إيذاء المرض، فلم يجز له التحلل، كما لو أحرم فضل الطريق. ويخالف التحلل لأجل العدو؛ لأنه يتخلص بالتحلل من أذى العدو ومقاساته، وينصرف إلى أهله ووطنه. وهذا المعنى لا يوجد في المرض فلم يقس عليه؛ لأن ما خصه الله أو رسوله بالذكر ونص فيه على حكم على ثلاثة أضرب:
ضرب: لا يعقل معناه، ولا يجوز القياس عليه، وذلك مثل: أعداد الركعات وأوقاتها، ولذلك لم يقس عليها وجوب صلاة سادسة.
وضرب: يعقل معناه، ولم يوجد ذلك المعنى في غيره، مثل: المسح على الخفين؛ لأن معناه: أن الحاجة تدعو إلى لبسهما، وتلحق المشقة في نزعهما، وهذا لا يوجد في العمامة والقفازين؛ لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسهما، وإن دعت الحاجة إلى لبسهما فيمكن المسح على الرأس من تحت العمامة. وكذلك التحلل من الإحرام لأجل الإحصار بالعدو عقل معناه، وهو: التخلص من العدو بالتحلل، وهذا المعنى لا يوجد في المرض. وكذلك تحريم الربا في الذهب والفضة عقل معناه، وهو: أنهما قيم الأشياء، ولم يوجد هذا المعنى في غيرهما، فلم يقس عليهما غيرهما من الحديد والرصاص وغير ذلك في تحريم الربا فيه.
وضرب: عقل معناه، ووجد ذلك المعنى في غيره، فيجوز القياس عليه، وذلك مثل: ما نص النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على تحريم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح.
والمعنى المعقول - عندنا -: هو كونه مطعوم جنس، فقسنا عليه: الذرة والأرز وغيرهما من المطعومات.

.[مسألة:إحرام العبد وتحليله]

لا يجوز للعبد أن يحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما بغير إذن سيده؛ لأن منافعه مستحقة لسيده فلا يجوز تفويتها عليه بغير إذنه. فإن أحرم بغير إذنه فقد ذكرنا: أنه يصح، خلافا لأهل الظاهر.
ودليلنا: أنه مكلف فصح إحرامه كما لو أحرم بالصوم بغير إذن سيده.
إذا ثبت هذا: فالمستحب للسيد أن يدعه لإتمامه؛ لأنه قربة وطاعة، فإن أراد السيد تحليله منه وإخراجه كان له ذلك؛ لأن منافعه ملك له، فلا يلزمه إتلافها بغير رضاه. فإذا منعه من إتمامه صار كالمحصر، فإن ملكه السيد مالا وقلنا: إنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه، أو ملكه وقلنا: إنه لا يملك فهو كالحر المعسر بالهدي إذا أحصر بالعدو، وهل للهدي بدل؟ فيه قولان.
فإذا قلنا: له بدل ففي بدله ثلاثة أقوال، على ما مضى.
وإذا قلنا: لا بدل له فإن الهدي ثبت في ذمته إلى أن يعتق.
وهل له أن يتحلل قبل إخراج الهدي؟ أو إذا قلنا: إن بدله الصوم هل له أن يتحلل قبل الفراغ من الصوم؟
نص الشافعي: أنه على قولين، كالحر المعسر.
وقال أبو إسحاق: يتحلل العبد قبل أن يجد الهدي، وقبل أن يصوم قولا واحدا، والفرق بينه وبين الحر المعسر: أن الحر إذا بقي على إحرامه دخل الضرر على نفسه دون غيره، فلذلك جاز أن يبقى على إحرامه، والعبد إذا تركناه على إحرامه دخل الضرر على السيد؛ لأنه لا يمكنه استعماله في ذبح الصيد وعمل الطيب وما أشبهه، ولأن وجود الهدي يقرب من الحر؛ لأنه ممن يملك، ويمكنه أن لا يتحلل حتى يجد الهدي بابتياع أو اتهاب، والعبد يحتاج إلى أن يصبر إلى أن يعتق، ثم يوسر، وفي هذا مشقة. وهذا الحكم في المدبر وأم الولد والمعلق عتقه بصفة.

.[فرع: رجوع السيد بإذنه لعبده في الإحرام]

وإن أحرم العبد بإذن المولى وجب عليه أن يمكنه من إتمامه، فإن رجع السيد في الإذن بعد الإحرام لم يكن له تحليله.
وقال أبو حنيفة: (له أن يحلله).
دليلنا: أنه عقد لازم بإذن المولى فلم يملك إخراجه منه، كالنكاح.
وفيه احتراز: من المضاربة، والشركة، والعارية.
وإن رجع السيد في الإذن قبل أن يحرم العبد، فإن علم العبد برجوعه ثم أحرم كان كما لو أحرم بغير إذنه، على ما مضى؛ لأن إذنه الأول قد أبطله قبل الدخول فيه، وإن لم يعلم العبد بالرجوع فأحرم فهل له أن يحلله؟ فيه وجهان، بناء على القولين في بيع الوكيل بعد العزل وقبل علم الوكيل بالعزل.

.[فرع: بيع السيد عبده المحرم]

وإن أذن السيد لعبده بالإحرام فأحرم، ثم باعه قبل التحلل صح البيع؛ لأن الإحرام لا يمنع التسليم. فإن علم المشتري بذلك فلا خيار له، وإن لم يعلم فله الخيار في فسخ البيع؛ لأن بقاءه على الإحرام يضر بالمشتري.
وقال أبو حنيفة: (لا خيار له؛ لأنه عبده، له أن يحلله، كما لو كان لبائعه). وقد مضى الدليل عليه.
فأما إذا أحرم بغير إذن سيده ثم باعه لم يكن للمشتري الخيار في فسخ البيع، سواء علم بإحرامه أو لم يعلم؛ لأن له أن يحلله كما كان للبائع أن يحلله فقام المشتري مقامه في ذلك.

.[فرع: سفر المكاتب للحج والعمرة]

وأما المكاتب: فإذا أراد أن يسافر للحج والعمرة فهل للسيد منعه من ذلك؟
فيه طريقان:
الأول: من أصحابنا من قال: فيه قولان كالسفر للتجارة.
والثاني: منهم من قال: له أن يمنعه من سفر الحج والعمرة قولا واحدا؛ لأن السفر للتجارة يقصد به زيادة المال، وفي سفر الحج إتلاف المال من غير زيادة.

.[مسألة:الحج للزوجة]

إذا أرادت الزوجة أن تسافر لحج التطوع أو تحرم به فللزوج منعها منه؛ لأن حقه واجب عليها، فلا يجوز لها تفويته عليه بما ليس بواجب عليها. وإن أرادت أن تسافر لحجة الإسلام أو تحرم بها فهل للزوج منعها من ذلك؟ فيه قولان حكاهما ابن الصباغ، والمسعودي [في "الإبانة" ق \ 211 و 212]:
أحدهما: ليس له منعها من ذلك - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». وهذا عام في المسجد الحرام وغيره. ولأنه لا يجوز للزوج منعها من الصلاة المفروضة في أول الوقت وإن كان يجوز تأخيرها إلى آخر الوقت، فكذلك الحج الواجب.
والثاني: له أن يمنعها من ذلك - ولم يذكر الشيخ أبو حامد في "التعليق" غيره - لما روى الدارقطني بإسناده، عن ابن عمر: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في امرأة لها زوج ولها مال ولم يأذن لها في الحج، قال: «ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجها». ولأن الحج - عندنا - على التراخي، وحق الزوج على الفور، فكان مقدما، كالعدة تقدم على الحج. ويخالف الصلاة في أول الوقت؛ لأن مدتها يسيرة، فلا يستضر الزوج بذلك، بخلاف الحج. فإن أذن لها الزوج فأحرمت لزمه تمكينها من إتمامه فرضا كان أو تطوعا؛ لأنه يلزم بالدخول. وإن أحرمت بغير إذنه صح إحرامها فرضا كان أو تطوعا، وهل يجوز للزوج أن يمنعها من إتمامه ويطالبها بالتحلل؟ ينظر فيه:
فإن كان في حجة الإسلام، فإن قلنا: لا يجوز له منعها من الدخول فيه لم يكن له تحليلها منه. وإن قلنا: له منعها من الدخول فيه فهل له منعها من إتمامه؟ فيه قولان:
أحدهما: له أن يحللها منه؛ لأن له منعها من الدخول فيه، فكان له تحليلها كالأمة.
والثاني: ليس له تحليلها؛ لأنه كان له منعها منه ما لم يكن مضيقا عليها، بل هو على التراخي، فأما إذا أحرمت فيه فقد تضيق عليها وتعين عليها.
وإن كان الحج تطوعا فقد قال الشافعي: (ومن قال: ليس له أن يحللها من حجة الإسلام إذا أحرمت به يلزمه أن يقول: إذا أحرمت بتطوع لم يكن له أن يحللها منه). فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان، كحجة الإسلام؛ لأن حجة التطوع تلزمه بالدخول، كحجة الإسلام.
ومنهم من قال: له أن يحللها من حج التطوع قولا واحدا - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق في "المهذب" - كما يجوز له أن يحللها من صوم التطوع، وما ذكره الشافعي في حجة التطوع، فإنما ذكره تشنيعا على قول من قال: ليس له منعها من إتمام حجة الإسلام، وتضعيفا له، لا أنه مذهب له في حج التطوع.